رسالة العميد

         تأسست  كلية الإلهيات بجامعة إستانبول عام 1900م، وهي من أولى كليات الإلهيات التي اُفتتحت في بلادنا، ومنذ تأسيسها أخذت على عاتقها نشر العلم النافع للبلاد والإنسانية جمعاء، وأن تخرِّج علماء مختصصين في شتى العلوم والمجالات؛ وخاصة بعد أن رفعت قواعدها شعبة العلوم العالية الدينية لدار الفنون السلطانية وتحولت إلى كلية مستقلة بدار الفنون إستانبول بعد صدور قانون "توحيد التدريسعام 1924، وفي ذلك الحين بدأت الكلية  تستقبل الطلاب في شهر مايو، ومن ثمَّ أمست الكلية واحدة من أوّل خمس كليات تحت سقف دار الفنون إستانبول، والتي سُمّيت فيما بعد بجامعة إستانبول.

          ومن ناحية أخرى تمتد جذور الكلية إلى نظام المدارس السلجوقية، فمن خلال تلك الجذور وصلت إلينا المساقات والمناهج التعليمية التي بلغت ذروتها في مدارس السلطان الفاتح والمدارس السليمانية ودار الفنون العثمانية مع المكتسبات المعرفية التي حققها العلماء وطلاب العلم الذين درسوا وتخرجوا في هذه المدارس على نفس الأصول، وتَبِع ذلك العديد من تجارب التنظيمات العثمانية (الإصلاحاتوالجمهورية التركية الحديثة والتجديدات والتعديلات المتفرقة.

ومازالت كليتنا تستمر في توسيع وتطوير هذا الإرث الهائل الذي ورثته، وذلك بما يتماشى مع القيم الأخلاقية والعالمية مع المحافظة على مستوى متقدم من العلم والجودة مع ما يقرب من مئتي أكاديميّ من أعضائها المؤهلين في مجالاتهمهدفنا الوحيد هو الجمع بين الماضي والمستقبل؛ لإضافة أغصان جديدة لهذه الشجرة القديمة، والحفاظ على العلاقة بين الجذور والفواكه في آن واحد في عالم العولمة، كما أنّ الاتصال الوثيق باللغات والثقافات والأديان المختلفة لا يُعد ضرورة فحسب؛ بل أيضًا مطلبا أساسيا.

وتتيح الكلية فرصا عديدة لتحقيق ذلك من خلال برامج تبادل الطلاب والمحاضرين، فإنَّ جامعة إستانبول تتبادل المعرفة والخبرات مع مناطق جغرافية مختلفة من العالم، وكل هذا التنقل والتنوع الأكاديمي يقدم وجهات نظر جديدة لطلاب كليتنا؛ وذلك بفضل برامج التبادل المختلفة مثل  "مولاناو"إيراسموسو"الفارابيالعاملة في هذا الاتجاه، وبرنامج "الإلهيات الدوليةالذي يُنفَّذ بالتنسيق مع رئاسة الشؤون الدينية، فيتمكن طلابنا ومحاضرونا من التواصل مع تراث مختلف من الشرق والغرب؛ لذلك هذه تجربة فريدة نتميز بها من ناحية ومن ناحية أخرى فإن المشتركين فيها يتأثرون ويؤثرون كذلك في البيئات التي يتواصلون معها فيفيدون ويستفيدون.

كما أنَّ البرامج الخاصة  باللغتين العربية والإنجليزية التي طُوّرت مؤخرا بالإضافة إلى البرامج المعتمدة باللغة التركية  هي الركائز الأساسية التي تحمل الهيكل العام للثقافات المتنوعة لكليتنا، فتوفر هذه البرامج لطلابنا إمكانية الوصول المستمر إلى التراكم الفكري للعالم العربي والغربي من ناحية ومن ناحية أخرى فإنها توفر فرصًا تعليمية للطلاب من مختلف مناطق العالم.

ولا يختلف اثنان أنَّ الحضارة الإسلامية هي منبع  الديناميكيات والأنشطة  التي خرجت من رَحِمها هذه التعددية الثقافية والثراء العلمي اللذان تعد كلية الإلهيات بجامعة إسطنبول مثالاً لهما.

في الماضي كان الطلاب الذين تعلموا في المدارس السلجوقية والعثمانية يحصلون على الإجازات وهم متمكنون من اللغتين العربية والفارسية، فيضربون الأرض  في رحلات شاقة لتحصيل هذه العلوم النافعة، وفي عام ١٩٢٤ عندما بدأت الكلية نشاطها كمؤسسة تعليمية حديثة كانت لا تقبل خريجي الثانوية العامة إلا بعد اجتيازهم الاختبار الخاص باللغتين العربية والفارسية بعد تعلمها في  تلك المدارس، وهذا بدوره يوضح امتداد التقليد العلمي المتوارث، كما أنّ هناك  مؤشرا آخر على أن الكلية اعتبارًا من يوم تأسيسها قد توارثت تراث الحضارة الإسلامية بحق وذلك عن طريق توفيربرامج التعليم في مجالات المنطق والفلسفة (الفكركما توفر في العلوم الإسلامية الأساسية مثل التفسير والحديث والكلام والشريعة الإسلامية والقراءة وغيرها، مع الوضع في الاعتبار البعد المعنوي لكل فروع العلم من خلال الدورات التدريبية في الصوفية والبعد الجمالي لها من خلال الدوارت المتعددة في مجالات الفنون الإسلامية.

إنَّ منهجنا الذي يحاول إدراك أكبر قدرمن تراث الحضارة الإسلامية متمثلا في  تاريخ الإسلام وتاريخ الطوائف الإسلامية وتاريخ الأديان يقوم بمهمة الجمع بين هذا التراث الهائل والمجالات الاجتماعية الحالية، إضافة إلى الدورات المقدمة في مجال التربية الدينية وعلم نفس الدين وعلم الاجتماع الديني.

إنّ ممّا تملكه كليّتنا وتتميز به هو توارث تقاليد نشأ تحت تربيتها كثير من المفكّرين وأصحاب الفضل، إضافة إلى تمركزها في مدينة هي ملتقى طرق الحضارة، وامتلاكها وسائل الوصول إلى مناطق جغرافية متعددّة وتقاليد مختلفة، مما منحها مفهوم المعاصرة والحداثة مع اتّصال حبالها بالماضي اتّصالا عريقا.

ولا شكّ أنّ كلّ هذه المزايا المتعددة الّتي تمتاز بها كليتنا تُلقي على عاتقها مسؤوليّة كبيرة، لكنّنا على يقين تامّ بأنّ كليّتنا الّتي تعدّ مرجعا أساسيا في عالم العلوم والمعرفة من خلال رفع البحوث والأنشطة  التّعليمية التي تشرف عليها إلى مستوى عالمي سوف تنهض بهذه المسؤولية بفضل الجهود المشتركة لأعضاء هيئة التّدريس الذين يمتلكون الخبرات العلمية والعملية في مجالاتهم، وكذلك طلابنا أصحاب الفضل والعلم والحكمة.

وسيكون في مقدمة أهدافنا الأساسية حمل التّراث الذي تسلّمناه والانتقال به نحو مراحل متقدّمة، ونقله إلى الأجيال القادمة بشكل صحيح، ولن يحدث هذا إلّا مع نية خالصة وجهود جماعيّة.

فالجهد منّا والتوفيق من اللّه عزّ وجلّ.

عميد الكليّة

الأستاذ الدّكتور رمضان موسلي